سورة هود - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
أي أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في {كَانَ} والمعنى على الكسر، وهو قولك: إنّ زيداً كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} بدل من {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} أي أرسلناه بأن لا تعبدوا {إِلاَّ الله} أو تكون (إن) مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه.
فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازي مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجدّ جدّه.


{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
{الملا} الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملؤا بالأمر؛ لأنهم ملؤا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون أو لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشر. والأراذل جمع الأرذل كقوله: {أكابر مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123] «أحاسنكم أخلاقاً» وقرئ: {بادي الرأي} بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأي أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أن اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله {مِن فَضْلِ} من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه.


{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
{أَرَءيْتُمْ} أخبروني {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} على برهان {مّن رَّبّى} وشاهد منه يشهد بصحة دعواي {وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ} بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة.
فإن قلت: فقوله: {فَعُمّيَتْ} ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ: {فعميت} بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبي {فعماها عليكم} فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.
فإن قلت: فما معنى قراءة أبي؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها. ونحوه {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله: {لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} راجع إلى قوله لهم: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} [هود: 25]. وقرئ: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} بالتنوين على الأصل.
فإن قلت: ما معنى قوله: {إنهم ملاقو رَّبُّهُمْ}؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم. أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون. ونحوه {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية [الأنعام: 52]، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة {تَجْهَلُونَ} تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل: من قوله:
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ***
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم {مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} من يمنعني من انتقامه {إِن طَرَدتُّهُمْ} وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء {أَعْلَمُ الغيب} معطوف على {عِندِى خَزَائِنُ الله} أي لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب.
ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلي بقولكم {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} [هود: 27] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء: افتعال من زري عليه إذا عابه. وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9